الفن المصري القديم | المحاضرة الثانية: الفن وعلاقته بالمذاهب الدينية
إن الانسان البدائي وهو يحاكي الطبيعة ابتكر السحر أي فن القيام بما ليس له وجود في المجري الطبيعي للأحداث الطبيعية، ولا شك أن الممارسات الأولي لهذا السحر كانت تستخدم ( الأشكال المستمدة من الطبيعة ) وهذا يفسر لنا مدي تأثير الممارسات السحرية علي إنجاز الإبداعات المتعلقة بالرسم والتصوير والفنون التشكيلية التي بدأت بالرسوم التخطيطية علي الصخور. وكان دور الفنان بفطرته هو تسجيل بعض خواطره وأفكاره ومعتقداته بالاستعانة برموز مستمدة من الطبيعة تدل عليه من خلال رسوماته ونقوشه علي تلك الأدوات والأواني والتماثيل التي خلفتها لنا تلك الحضارات ( دير تاسا - البداري - نقادة ) والتي عثر عليها في مقابرهم بجوار موتاهم بصورة تدل علي الاعتقاد باستمرار الحياة بعد الموت ( أي الاعتقاد بالبعث والخلود ) مثل حياتهم الأولي علي الأرض.
وكان المصريون القدماء منذ بواكير حياتهم الحضارية يحملون رموزاً لآلهتهم إلي أرض المعركة أو الصيد أو ساحة الاحتفالات لاعتقادهم في وجود صلة بين هذه الرموز والآلهة التي يعبدونها. كما تشير ظواهر الأمور إلي أن المصري القديم لم يعبد هذه الموجودات لذاتها وإنما لكونها رموزاً أرضية للقوي العليا الخفية الكامنة فيها، ورغم هذه الدلائل علي تقدم الفكر في عصور ما قبل التاريخ إلا أنه لم تكن هناك فرصة للكهنة والمفكرين للخروج علي بني البشر بأفكارهم وتصوراتهم عن مذاهب الخلق ونشأة الكون. من هنا اتضح دور الفن في صياغة هذه المذاهب الكونية والتي اقترنت بفكر المصري القديم العقائدي المذهبي والأسطوري بصور فنية تحدد ملامحه حتي يرسخ في الأذهان ويشيع في الوجدان ليحيي به وتتوارثه الأجبال عبر عصوره القديمة.
مذهب ( أون ) عين شمس:
صور مذهب ( أون ) العالم علي أنه محيطاً أزلياً اسمه "نون" ومن "نون" برز معبود الشمس فوق ربوة عالية واقفاً علي حجر هرمي الشكل الذي أصبح فيما بعد رمزاً مقدساً لهذا المعبود، ومنه صار الشكل الهرمي لمقابرهم في الدولة القديمة والدولة الوسطي كما اتخذت قمة المسلة شكلها الهرمي في الدولة الحديثة. ومن هنا صور الفنان المصري القديم المعبود "رع" في صورة قرص الشمس كما صوره في أشكال متعددة تحيط به بعض الآلهة وهو يعبر السماء بقاربه، وفي صورة أخري نراه في شكل جعران ذي جناحين أو إنسان برأس صقر يعلو رأسه قرص الشمس.
مذهب الأشمونين:
يتبع هذا المذهب إلي مدينة أشمون التابعة لمركز ملوي ( محافظة المنيا )، وهي مركز عبادة المعبود "تحوت" رب الكتابة والحكمة والمعرفة، رأي الأشمونيون أن المعبود "رع" ليس هو الخالق للكون وإنما خلقه مجموعة من الآلهة يبلغ عددهم ثمانية أربعة منهم علي شكل ضفادع وأربعة أخري علي شكل ثعابين حيث وجدوا بيضة، وضعوها علي سطح التل الأزلي في أشمون وخرج منها المعبود "رع" ليخلق الكون وهذا التفسير لا ينكر تفسير مذهب ( أون ).
مذهب منف:
يري أهل منف وهي عاصمة الدولة القديمة أن المعبود "بتاح" هو خالق الكون لأنه يملك قدرة حكيمة آمرة خلق نفسه بنفسه .. وأنه صاحب الإبداع في الكون، ومخلوقاته من الكائنات الحية وأن سبيله إلي الخلق كان القلب واللسان والعقل، ويختلف هذا المذهب عن المذاهب الأخري التي سبقته في أنه اغتجه إلي الفكر والمعنويات وابتعد عن التجسيد والماديات.مذهب طيبة:
رجح أصحاب هذا المذهب نشأة وخلق الكون إلي المعبود "آمون" باعتباره عضواً من أعضاء الثامون بالأشمونين والذي أصبح معبود طيبة فيما بعد، فهو خالق الكون الذي أنجب ولداً علي هيئة ثعبان يعرف بأنه ( خالق الأرض ) وهو بدوره خالق آلهة وآلهات الأشمونين، وهناك في الأشمونين خلقت الشمس، ثم اتجه الثامون إلي طيبة حيث استراحوا بها عند معبد هابو، وكان المعبود "آمون" يتردد عليهم لتقديم القرابين، كما كان لهذه الآلهة دور هام في العالم الآخر، فهم الذين يدفعون الشمس إلي الشروق والنيل عبر اغلأرض ليبعث فيها الحياة.
في النهاية يمكن الاستنتاج من هذه المذاهب الدينية أنهم ردوا تفسيرهم لنشأة وخلق الكون إلي خالق واحد، وهو الذي أوجد الوجود وأربابه وناسه وبقية الكائنات، ففي ( أون ) دعوه باسم "أتوم رع" وفي الأشمونين دعوة باسم " رع ". وربما كان اتفاق مذهب الأشمونين مع مذهب ( أون ) في نشأة الكون الأمر الذي ربط بين اسمي ( رع ، آتوم ) حيث صار اسمه بعد ذلك ( رع - آتوم ) وفي منف باسم "بتاح" أما في طيبة رأوا أن خالق الكون هو المعبود "آمون".
لهذا فرق الفنان المصري القديم بين المعبودات التي اتخذ صورها من الحيوانات أو الطيور وبقية الكائنات نفسها حسب ما أملته عليه العقيدة فهم لا يقدسون الحيوان أو الطائر لذاته وإنما هي رغبة الرمز إلي صفاته والتقرب إليه. وإن كل الصور والأشكال التي استعان بها الفنان في صياغة هذا الفكر العقائدي كلها مستمدة من الطبيعة لاعتقاده في أنها رموز لقوي عليا خفية كامنة في هذه المخلوقات، فجسد صور الآلهة وهذه المذاهب في صور تلك المخلوقات التي جاءت مفعمة بخيال خصب وفهم عميق لهذا الفكر العقائدي وتحويله إلي عالم واقعي ملموس يراه ويعيشه المصري القديم.
كما نستخلص من هذا العرض أن الفن والعقيدة مروا بثلاث دورات، هما: الدورة الأولي، هي دورة كونية تتضمن المعتقدات عن نشأة وخلق الكون، والدورة الثانية، وهي دورة أوزيرية تنتسب إلي المعبود "أوزير" والمعتقدات الخاصة بالحياة الآخرة من قيامة وبعث. والدورة الثالثة والأخيرة هي دورة النزاع بين ( حور ، ست ) والتي تميزت بإضفاء الطابع الإلهي علي ملوك مصر القديمة حيث ارتقي الملوك إلي مصاف الآلهة التي ينتهي فيه نسبهم إلي "حور" لذلك كان الملوك حريصيين علي الحفاظ علي الدم الإلهي حتي يصير ملكاً علي عرش البلاد.
تعليقات
إرسال تعليق